سورة المؤمنون - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


{ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ}.
أي وبعد نوح أرسل اللّه سبحانه وتعالى رسلا كثيرين إلى أقوامهم، فكان الموقف واحدا {كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ}.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنا}.
إشارة إلى أن عملية الخلق ليست عملية آلية، كما تبدو من التوالد بين الأحياء، وإنما تتجلّى قدرة اللّه سبحانه وتعالى في خلق كل مخلوق، صغر أم كبر- فميلاد المولود هو خلق، وإنشاء مستقلّ.. تماما كما خلق الإنسان الأول من تراب، فكذلك خلق الإنسان المولود منه.. هو من تراب أيضا.. حيث تتولد النطفة من مادة المأكولات المتولدة من الأرض.. ثم تسير النطفة في مراحل التطور بقدرة الخالق، فتتحرك من طور إلى طور، حتى يولد المولود.
وهذا هو السر في التعبير القرآنى بلفظ {أنشأنا} بدلا من لفظ أقمنا، أو خلقنا.. ونحوهما.
والقرن الآخرون، الذين جاءوا بعد قوم نوح، هم قوم عاد وقوم ثمود.
وقد جمعهما القرآن الكريم في قرن واحد، لأنهم كانوا على شاكلة واحدة، وقد جاء قوم ثمود، خلفا لقوم عاد، في ديارهم ومساكنهم.
قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ}.
تلك هى دعوة الرسول في القوم، سواء أكان الرسول هودا، المرسل إلى عاد، أم صالحا المرسل إلى ثمود.. إن رسول كل من القومين هو واحد منهم، وإن كلمة كلا الرسولين إلى قومه هى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ.. ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.. أَفَلا تَتَّقُونَ}.
دعوة إلى عبادة اللّه، وإفراده بالعبودية وحده.. والاستقامة على ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه.
قوله تعالى: {وَقالَ الْمَلأَُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ}
تلك هى بعض مقولات القوم- قوم عاد وقوم ثمود معا- التي استقبلوا بها دعوة رسولهم لهم، إلى الإيمان باللّه.
والملأ: الجماعة من أشراف القوم وساداتهم.
وفى قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا}.
وفى عطف {أَتْرَفْناهُمْ} على التكذيب والكفر- في هذا إشارة إلى أن نعم اللّه التي نعمهم بها وأترفهم بالتنعم فيها- كانت عندهم عدلا للكفر والتكذيب.. وكأن ذلك صفة من صفاتهم إلى جانب الكفر والتكذيب.. وكأن ذلك صفة من صفاتهم إلى جانب الكفر والتكذيب.. أي كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة، وجحدوا بنعمنا التي أترفناهم بها، وكذبوا بالرسول الذي جاءهم، وأبوا أن يؤمنوا لبشر مثلهم، وعدوا هذا خسرانا وبلاء عليهم.
قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ}.
هو بعض من مقولات القوم، التي ينكرون بها على النبي دعوته إياهم إلى الإيمان باليوم الآخر.. فهم يستبعدون- إلى حد الاستحالة- أن يبعثوا بعد أن يموتوا، ويصبحوا ترابا ورفاتا.. كما يقول اللّه تعالى بعد هذا، على لسانهم:
{هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}.
إنهم بهذا يؤكدون استبعاد البعث بعد الموت، ويؤكدون أنه لا حياة إلا هذه الحياة التي هم فيها، وأنهم إنما يدورون في هذين المدارين، حياة وموت، وموت وحياة.. حيث يموت ناس، ويولد ناس.. وهكذا دواليك.. أما أن يبعث الموتى من قبورهم، ويعودوا إلى الحياة مرة أخرى، فذلك ما لا تقبله عقولهم ولا يتصوره خيالهم.
إن الإيمان بالبعث فرع عن الإيمان باللّه، وبقدرته، وعلمه، وحكمته.
فإذا لم يكن إيمان باللّه، أو دخل على هذا الإيمان خلل وفساد- لم يكن أمر البعث ممكن التصور.. كما يقول الشاعر الجاهلى:
حياة ثم موت ثم بعث *** حديث خرافة يا أمّ عمرو
قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} هى قوله القومين- عاد وثمود- قالها كل قوم لرسولهم، فرموه بالافتراء والكذب على اللّه.
{قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ} وتلك هى صرخة كل من الرسولين إلى ربه، وفزعته إليه.. وقد كانت تلك هى صرخة نوح وفزعته إلى ربه من قبل: {رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ}.
{قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ}.
وقد استجاب اللّه للرسولين الكريمين، بهذا الوعيد الذي توعّد به القوم الظالمين.
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الصيحة: هى الزلزلة، التي رجّت ديار القوم، وأتت على كل شيء وإذا كان عاد قد أهلكوا بريح صرصر عاتية، كما يقول اللّه تعالى: {وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ}.
وإذا كانت ثمود قد أهلكت بالصيحة. وقد سماها القرآن {الطاغية}.
كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} إذا كان هذا وذاك، فإن الصيحة تجمع الصفة التي هلك عليها عاد وثمود، فأنهم أهلكوا بهذا البلاء الذي صاح فيهم صيحة جمد لها الدم في عروقهم، وتصدعت لها قلوبهم، وتهاوت منها ديارهم.
وفى قوله تعالى: {فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً} إشارة إلى أن ما خلّفه البلاء الواقع بهم، من ذواتهم، وديارهم، وأموالهم- لم يكن إلا ترابا وحطاما أشبه بالغثاء الذي يحمله السيل في اندفاعه، مما يجده في طريقه من مخلفات الأشياء، التي لا يلتفت إليها أحد.


{ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ}.
القرون: الأمم.. والقرن من عمر الزمن مائة عام، ومن عمر الإنسانية، جيل من أجيالهم ويقدّر بثلاث وثلاثين سنة.
والإنشاء: الخلق، والإيجاد من عدم، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
{ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها}: أي ما تسبق أمة أجلها.. وحرف الجرّ {من} زائد، و{أمة} فاعل.
والمعنى.. أنه بعد أن أهلك اللّه قوم عاد، وقوم ثمود، خلق من بعدهم أمما أخرى كثيرة، جاء بعضها إثر بعض.. فكان لكل أمة ميقات لميلادها ومهلكها، تماما كميقات مولد الإنسان ومهلكه.. لا تجىء أمة قبل الوقت المقدر لميلادها، ولا تستأخر عنه.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}.
تترى: أي تتتابع، ويجىء بعضها وراء بعض.
أي ثم أرسل اللّه سبحانه وتعالى إلى كل أمة رسولا منها.. يلقاها في الوقت المعلوم.. وكما تتابعت الأمم، وجاء بعضها إثر بعض، كذلك تتابعت الرسل وجاء بعضهم وراء بعض.
وكما خلفت كل أمة الأمة التي قبلها، في ديارها وأموالها، خلفتها كذلك في تكذيبها لرسول اللّه المبعوث إليها! ثم حل بها البلاء، وأخذها اللّه ببأسه.. كما أخذ من سبقها من أمم.
وفى قوله تعالى: {وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ} إشارة إلى هلاك هذه الأمم المتتابعة، وزوال آثارها، فلم يبق منها إلا أحاديث يرويها الناس عنها، وعما كان منها، وما نزل بها.
وقوله تعالى: {فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}.
هو تهديد لمن لا يؤمن باللّه من الأقوام الحاضرة أو المقبلة، وعبرة بهذه الأمم التي هلكت بعذاب اللّه.
وفى التعبير هنا بقوله تعالى: {فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}.
وبقوله تعالى: {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} عند التعقيب على هلاك قوم عاد وثمود- في هذا مراعاة لمقتضى الحال هنا وهناك.
فهنا تهديد لقوم يدعون إلى الإيمان، ويقفون موقفا مباعدا له، ولكنهم لم يقعوا بعد تحت عذاب اللّه الراصد للكافرين.. فحسن لهذا أن تعرض عليهم صورة الكافرين، وقد تلبسوا بكفرهم هذا الذي إذا لم يخرجوا منه، كان مصيرهم البلاء والنكال.. وهناك- مع قوم عاد وثمود- قد هلك القوم فعلا، بعد أن قطعوا طريقهم مع الكفر إلى آخره.. فكانوا بهذا كافرين وظالمين غير مظلومين، إذ أخذوا بهذا العذاب البئيس، فكان وصفهم بالظلم أنسب وصف لهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ}.
عطفت قصة موسى على ما قبلها بحرف العطف {ثمّ} الذي يفيد التراخي.
وهذا الفصل بثم، بين هذه القصة وما سبقها من قصص، للإلفات إلى قصة موسى، إذ كانت، بما اشتملت عليه من أحداث، وما صحبها من معجزات- تكاد تكون مثلا فريدا بين قصص الأنبياء التي سبقتها.
والسلطان المبين الذي كان مع موسى- هو ما ضمّت عليه هذه الآيات من إعجاز قاهر غالب، يفحم الخصم، ويقهره.. وبهذا يكون له السلطان القوى المبين عليه.
وفى قوله تعالى: {وَكانُوا قَوْماً عالِينَ}.
هو حال من الضمير في قوله تعالى: {فَاسْتَكْبَرُوا} أي فاستكبروا مصاحبين استعلاءهم الذي كان يملأ شعورهم بالترفع عن مستوى البشر.
فهذا الاستكبار الذي لقى به فرعون والملأ الذين معه، دعوة موسى وهرون لهم إلى الإيمان باللّه،- هذا الاستكبار، هو أثر من آثار هذا الغرور الذي استبد بعقولهم، فرأوا منه في فرعون إلها، وأنهم حاشية إله!! قوله تعالى: {فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ}؟ وهذا القول، هو من قوم فرعون، ومن الملأ الذين معه.. وليس من فرعون.. إذ أن فرعون ما كان يرى أنه من البشر، وإنما هو إله من نسل آلهة.. ولهذا قال لموسى: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}! وهذه القولة من قوم فرعون شاهد يشهد بأن الناس جميعا على سواء في إنكارهم على رسل اللّه أن يكونوا بشرا مثلهم.. وأكثر ما يكون هذا عن الحسد الذي ينفس فيه بعض الناس على بعضهم، أن ينالوا شيئا من نعمة، أو جاه، أو سلطان، وأشد ما يكون الحسد، حين يكون بين المتجاورين، والمتقاربين في الدار، أو العمل.. وأنه كلما بعدت الصلات بين إنسان وإنسان، فترت أو ماتت دواعى الحسد له، والعكس صحيح.
ومن هنا صحت العبرة القائلة: لا كرامة لنبى في وطنه وذلك للنظرة الحاسدة له من قومه.
وقوله تعالى: {وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} هو من بعض تعلّات القوم على موسى وهرون، ومن الحجج التي أقاموها في دفع دعوته لهم إلى متابعته.. إذ كيف يتابعون بشرا مثلهم؟ وإذا جاز هذا فكيف يتابعون بشرا هو دونهم منزلة؟ أليس موسى وهرون من قوم هم خدم وأتباع لفرعون وقومه؟
قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ}.
وتلك هى عاقبة من يدعى إلى الهدى فيأبى، ويلقى إليه بحبل النجاة فيأنف أن يمسك به من يد لا يراها كفئا له حسبا ونسبا، ويؤثر أن يموت غرقا على أن تكتب له النجاة، ويأخذ الحياة من تلك اليد المحقّرة عنده!.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}.
هو إشارة إلى قصة أخرى.. هى قصة موسى مع قومه بنى إسرائيل، بعد أن انتهت قصته مع فرعون وقومه.
ولم يجر ذكر هنا لبنى إسرائيل، وإنما جىء بضمير الغيبة عنهم بدلا منهم، إشعارا لما كان عليه القوم من عناد، وخلاف، ومكر بآيات اللّه، حتى لكأنهم- وهم يسمعون آيات اللّه، ويرون المعجزات التي يطلع بها عليهم موسى- غائبون غير حاضرين، لما في قلوبهم من قسوة، وما في طبائعهم من التواء.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ} هو معطوف على قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ}.
أي آتينا موسى الكتاب، وجعلنا ابن مريم وأمّه آية.. لبنى إسرائيل لعلهم يهتدون، وذلك أن عيسى عليه السلام هو رسول إلى بنى إسرائيل، وآية من آيات اللّه فيهم.. وتلك الآيات القاهرة المتتابعة، هى مظاهرة لحجة اللّه على هؤلاء القوم، حتى إذا لم يستجيبوا لها، كان العذاب الواقع بهم أضعافا مضاعفة، لما يحلّ بغيرهم من عباد اللّه.
وفى الإشارة إلى عيسى عليه السلام بقوله تعالى: {ابْنَ مَرْيَمَ} إشارة إلى النسب الصحيح له.. وهو أنه ابن أمّه مريم.. وليس ابن إله كما يدّعى النّصارى، ولا ابن زنا كما يفترى اليهود.. {إنه ابن مريم}! وقد اختلف في الربوة- وهى المكان المرتفع من الأرض- التي آوى اللّه سبحانه وتعالى، إليها ابن مريم وأمّه.. والراجح عندنا أنها مصر.. التي جاء إليها المسيح طفلا محمولا على صدر أمه، مع زوجها يوسف النّجار.. وذلك حين أوحى اللّه إلى مريم أن تهرب بوليدها إلى مصر، خوفا عليه من الحاكم الرومانى، الذي طلبه ليقتله، حين سمع بمولده.. كما يحدّث بذلك إنجيل متّى.
وتسمية مصر {رَبْوَةٍ} لأنها بالنسبة لأرض فلسطين أشبه بالربوة المشرفة على الوادي، وذلك لأنه كلّا من مصر وفلسطين في النصف الشمالي من الكرة الأرضية.. وأن الأرض في هذا النصف تأخذ في الانحدار من الجنوب إلى الشمال، أي من خط الاستواء إلى القطب الشمالي، ولهذا تجرى الأنهار من الجنوب إلى الشمال في هذا النصف من الكرة.. ولما كانت مصر تقع إلى الجنوب من أرض فلسطين، فإنها- لهذا- أعلى مكانا منها، بحيث لو نظر الناظر إليهما من أفق أعلى لرأى مصر مشرفة على فلسطين كأنها ربوة عالية.
والقرار: المكان الذي يستقرّ فيه، حيث تتوفر أسباب الحياة والاستقرار والمعين: الماء الذي يفيض من العيون.. وهذا الوصف جدير أن يكون لمصر.


{يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}.
الخطاب الموجه من اللّه سبحانه وتعالى إلى الرسل.. عليهم الصلاة والسلام- هو خطاب عام يشمل أتباع الرسل جميعا.. وقد خصّ الرسل بالنداء لأنهم القدوة والمثل للأنسانية كلها عامة، ولأقوامهم خاصة.
وقدّم الأكل من الطيبات على العمل الصالح، لأنه ثمرة الأعمال الصالحة، فلا يتحرّى الأكل من الطيب إلا من أقام نفسه على الأعمال الصالحة وأخذها بها.
ولأن الأكل، وما يتصل به، هو مدار حياة الإنسان، وكل سعيه وعمله يكاد يكون دائرا في مجاله- كان الإلفات إليه ألزم وأولى، لأنه هو الذي يجسّم العمل، ويصوّره، وهو الذي يرى عليه أثر العمل وصفته، إن كان صالحا أو غير صالح.
وفى قوله تعالى: {إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تحذير من مراقبة اللّه، وعلمه بما يقع من الناس من أعمال، وبما تتصف به هذه الأعمال من صلاح أو فساد.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} هو دعوة إلى الإخاء الإنسانىّ، وإلى إزالة هذه السدود التي تعزل المجتمعات الإنسانية بعضها عن بعض.. فما هذه الأصباغ والألوان التي تصبغ الناس، من معتقدات دينية، لا ينبغى أن تقوم حجازا بين الناس، وخاصة إذا كانوا جميعا يتجهون.
إلى اللّه، ويؤمنون به.. فوجهتهم جميعا هى اللّه، وإن كان لكلّ وجهة هو موليها.. وكذلك ينبغى أن تكون وجهتهم جميعا هى الإنسانية، وإن كان لكلّ إنسان لونه، ووطنه وجنسه.
قوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
هو إنكار على الناس هذا التقاطع والتدابر الذي بينهم، وقد كان الأولى بهم، وهم إخوة أبناء ذكر وأنثى، وهم مربوبون لربّ واحد أن يكون أمرهم واحدا.. ولكنهم تنكبوا هذا الطريق، فتنازعوا أمرهم بينهم، وتقطعوه قطعا، وذهب كل فريق منهم بجزء منه، فرحا بما ذهب به، ظانّا أنه أخذ الخير كلّه، على حين أنه أخذ القليل وفاته الكثير.
وفى قوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا} بدلا من قوله {فقطعوا} الذي يقتضيه ظاهر النظم إشارة إلى أنهم هم الذين تقطعوا، لا أن الأمر هو الذي تقطع.
وذلك أنهم بهذا الخلاف الذي وقع بينهم، قد أوقعوا الضرر بأنفسهم، فكان بينهم الصراع والقتال.
والزّبر: القطع، جمع زبرة وهى القطعة من الشيء.. كما في قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [96: الكهف] قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}.
الأمر هنا، هو أمر مطلق، لكل ناصح ومرشد، لهؤلاء الضالّين، المختلفين على الحق.
وهذا الأمر هو تهديد لهؤلاء الضالين المختلفين، بأن يتركوا فيما هم فيه من ضلال، وألا يلح عليهم أحد في تنبيههم من غمرتهم، وسكرتهم التي هم فيها.
وذلك إلى أن تقرعهم القارعة، التي تذهب بهذا الخمار الذي لذّلهم النوم في ظله المعتم الكثيف! قوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ.. بَلْ لا يَشْعُرُونَ}.
المفعول الثاني للفعل يحسبون محذوف، دلّ عليه المقام.
والتقدير أيحسبون هذا الذي نمدّهم به من مال وبنين، إكراما، وإحسانا منّا إليهم؟ كلا، وإنما {نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ} لنفتنهم فيما نمدهم به، كما يقول تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [131: طه].
وقوله تعالى: {بَلْ لا يَشْعُرُونَ} إشارة إلى أنهم لا يشعرون بهذا الابتلاء، وأنهم يحسبون ذلك خيرا لهم، كما يقول تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ} [180: آل عمران].
هذا، ويمكن أن يكون قوله تعالى: {نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ} هو المفعول الثاني للفعل يحسبون.. ويكون المعنى: {أيحسبون أنما نمدّهم به من مال وبنين مسارعة لهم منا بالخيرات؟ كلا.. إنه فتنة لهم.. ولكن لا يشعرون} لما استولى عليهم من سكرة بهذا الذي هم فيه من نعيم.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ}.
فى هذه الآيات عرض للصورة الكريمة، التي يكون عليها الذين يسارعون في الخيرات حقا، ويملئون أيديهم منها، ويكون لهم فيها زاد طيب في الدنيا والآخرة.
وهؤلاء هم على صفات تؤهلهم لهذا المقام الكريم:
فهم (أولا) من خشية ربهم، وخوفهم من بأسه- على إشفاق دائم، من أن يعصوه، وأن يفعلوا منكرا.. {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}.
وهم (ثانيا) بآيات ربهم يؤمنون، ويعملون بهذه الآيات، ويهتدون بهديها.. {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} ثم هم (ثالثا) قد خلت نفوسهم من كلّ أثر من الشرك باللّه.. {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} ثم هم (رابعا) على خشية ومراقبة دائمة للّه.. حتى أنهم وهم يفعلون ما يفعلون من خير ويقدمون ما يقدمون من طاعات وعبادات، لا تزايلهم الخشية ولا يبارحهم الخوف من اللّه، ومن أنهم على تقصير في حقه تعالى، وفيما يجب له من طاعة وولاء.
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} ويستعمل الإيتاء غالبا في فعل الخير مثل قوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ} وقوله تعالى: {وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ} وقوله سبحانه: {آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا}.
ويستعمل الإتيان في فعل الشر غالبا.. كما في قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} وقوله: {وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}.
وقد جاءت الآية هنا بلفظ الإيتاء.
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ}.
وفى قراءة مشهورة: {والذين يأتون ما أتوا} ويقال لها قراءة النبىّ.
وعلى هذه القراءة يكون المعنى: والذين يفعلون المنكر، وهم على خوف وخشية من ربهم. فإنهم بهذا الخوف وتلك الخشية أهل لأن يكونوا في هذه الأصناف التي ذكرها اللّه سبحانه وتعالى من أصناف المؤمنين.. إذ أن ما في قلوبهم من وجل من لقاء ربّهم وهم على المنكر- سينتهى بهم يوما إلى النزوع عن المنكر، والوقوف عند حدود اللّه.
وقد يبدو في ترتيب هذه الصفات تقديم وتأخير، وأنها لم تلتزم الترتيب الطبيعي، تصاعدا أو تنازلا.
فمثلا.. الإيمان بآيات اللّه.. ينبغى أن يسبق الخشية من اللّه، وكذلك عدم الشرك باللّه، وهو سابق للخشية من اللّه، حيث لا تكون الخشية للّه إلا من قلب مؤمن باللّه، وبآيات اللّه.. وإنه لا بد لهذا من سر.. فما هو؟
الجواب- واللّه أعلم- أن هذه الصفات، وإن أمكن أن تلتقى جميعها في قلب المؤمن باللّه، إلا أن المؤمنين على حظوظ مختلفة منها.. فبعضهم تغلب عليه صفة الخشية من اللّه، وبعضهم يؤمن بآيات اللّه، ولكن تغلبه نفسه، فلا تتحقق الخشية كاملة من اللّه في قلبه.. وبعضهم يعترف بوجود اللّه، ويقرّ بوحدانيته إقرارا عقليّا، كالفلاسفة ونحوهم. ولا يتلقون عن الرّسل، ولا يأخذون مما معهم من آيات اللّه.. وبعضهم يؤمن باللّه، وبآيات اللّه، وبرسل اللّه.. ثم يؤتون ما آتوا من طاعات وعبادات وهم في صراع مع أنفسهم، وفى خوف من لقاء اللّه أن يكونوا قد قصّروا.
فهؤلاء جميعا يمكن أن يتجهوا إلى الخير، ويجاهدوا أنفسهم لتحصيل الخير، حيث يحمل كل منهم في كيانه شرارة من شرارات الإيمان يمكن أن تنقدح في حال من الأحوال، ما دام على أية صفة من تلك الصفات، فتشرق نفسه بنور اللّه، وإذا هو- شيئا فشيئا- على هدى من ربه، وعلى طريق الخير والإحسان.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ} [201: الأعراف] وهذه الأصناف من المؤمنين- على قربها أو بعدها من الإحسان- يشدّها جميعها إلى النجاة، والفلاح، الإيمان باللّه.. وحيث يكون الإيمان باللّه، فإنه يكون الأمل والرجاء في السلامة والنجاة، وحيث يتعرّى الإنسان من الإيمان فإنه لا أمل ولا رجاء في سلامة أو نجاة، وإن فعل أفعال المؤمنين المحسنين.
قوله تعالى: {أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ}.
أي أن هؤلاء المؤمنين الذين تحققت فيهم تلك الصفات جميعها، أو تحقق فيهم بعضها دون بعض- هم أهل لأن يسددوا ويرشدوا، وأن يكونوا يوما من السباقين إلى الخير، ما داموا في صحبة الإيمان باللّه، ذلك الإيمان الذي يقيم في كيانهم نورا يطلع عليهم كلما أظلمت سماؤهم، وظللتها سحب الفتن والأهواء.
فالإيمان باللّه، هو المعتصم، ولا معتصم غيره، إذا استمسك به الإنسان فقد ضمن النجاة والفلاح.. {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [101: آل عمران] وقد روينا من قبل حديثا عن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم، في شأن ثقيف، حين دعيت إلى الإسلام، فقبلته، ولكنها اشترطت ألا تؤدى الزكاة، ولا تجاهد في سبيل اللّه.
وحين عرض على النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- إسلامهم هذا، قبله منهم، وقال صلوات اللّه وسلامه عليه: {سيتصدقون ويجاهدون في سبيل اللّه إذا أسلموا}.
قوله تعالى: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.. وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ..}.
هو تطمين لقلوب هؤلاء المؤمنين، الذين ملأت الخشية قلوبهم، واستولى الخوف من اللّه عليهم، حتى لقد كاد ذلك يكون وسواسا دائما يعيش معهم.. فجاء قوله تعالى: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} ليخفف عن المؤمنين باللّه هذا الشعور الضاغط عليهم، وليريهم من رحمة اللّه ما تقرّ به عيونهم، وتطمئن به قلوبهم، وذلك لأن اللّه سبحانه: {لا يكلف نفسا إلا وسعها} وحسب المؤمن باللّه أن يأتى من الطاعات ما تتسع له نفسه، ويحتمله جهده.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [16: التغابن].
وقوله تعالى: {وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ}.
المراد بالكتاب هنا، هو الكتاب الذي تسجّل فيه الأعمال، لكل عامل في هذه الدنيا، من حسن أو سىء.. كما يقول سبحانه: {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [29: الجاثية] وكما يقول جل شأنه: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً} [13: الإسراء].
فكل ما يعمله الإنسان، مسطور في هذا الكتاب، ناطق بكل صغيرة وكبيرة.. دون أن يكون هناك خطأ أو نسيان.. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
فليكتب الإنسان في كتابه هذا ما يحبّ أن يراه، ويسعد به ولا تكتب في كتابك غير شيء يسرّك في القيامة أن تراه.

1 | 2 | 3 | 4